السؤال:
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أنا أختكم من أسرة اشتهرت بعلمها والتزامها ولله الحمد، أبلغ من العُمر 15 سنة لكن عقلي وتفكيري يفوق عمري.. أدرس في الصف الأول ثانوي.. أحفظ القرآن كاملًا، وأسأل الله أن يرزقني العمل والقيام به.
في فترة المتوسطة لاحظ الجميع تغيّر شخصيتي من الهدوء إلى الصّخب ومن السهولة في التعامل والليونة إلى القوة والعناد، ولست أبرر ذلك بالصحبة لأن صويحباتي خلاف ذلك!! منذ 3 سنوات تقريبا.. وأنا أعاني أشد المعاناة، فأنا في أشد ضيقي وكربي!!! شعور بداخلي أكرهه.. وأكره التعبير عنه.. فأنا أتضايق في منزلنا وأكره الجلوس فيه، فتجدونني أشغل نفسي بالمراكز والملتقيات.. أنا لا أحب الخروج مع الصديقات والتسوق وما يحببنه من هن بعمري لا والله!! لكن في المنزل حقا أنا أكره المنزل وأكره أسرتِي.. أحس أن الناس يحبون أهلهم بالفطرة ويكرهونهم لأجل مواقف معينة أو في مواقف محدودة، أما أنا أحس أنني أكرههم بالفطرة وأحبهم في مواقف معينة (حين أكون خارج المنزل).. أعاني من ضيق في المنزل وأحسني بحاجه إلى البكاء.. معدلي في مادة القرآن الكريم منخفض جدا بسبب عدم قدرتي على حفظ القرآن في المنزل فبمجرد قراءته أجهش بالبكاء.. وأكره الحياة.. أحس أني عالة على أمي.. دومًا أسبب مشاكل بينها وبين أبي ومشاكل كثيرة في البيت دائما ما تكون بسببي..
أنا خارج المنزل أحس براحة كبيرة، أعاني من نسيان شديد، والله لما أذهب للمدرسة وأجلس أفكر بأمي وأحاسب نفسي.. فأنا لا أفعل هذه الأشياء عن قناعات أو عناد، لكن أفعلها وكأني لست أنا.. أشياء خارجة عن إرادتي وكأن شخصًا يتحكم في!!
والله إني اكتب لكم وقد بلغ مني الحزن ما بلغ وذرفت من الدمع ما ذرفت!!
ساعدوني.. وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
أختي الكريمة، أنا سعيدة حقا أن تكون شابة في مقتبل العمر وريعان الشباب تمتلك هذه الجرأة في التعبير عما يخالجها من مشاعر سلبية، وما يعتريها من معاناة وضيق، وسعيدة برغبتك الأكيدة في التخلص مما أنت فيه، وسأحاول إن شاء الله أن أضع أمامك بعض الحلول المكنة والمناسبة لعمرك، ولكن قبل ذلك أحب أن أنبهك إلى أن ما تشعرين به الآن سيأخذ مرحلة من الزمن وسينتهي، فلا تتضايقي من ذلك.
أولا: أنت من أسرة اشتهرت بعلمها والتزامها وهذه مفخرة لك، فكثير من الأبناء يفقدون ما أنعم الله به عليك، ويحلمون أن تكون لهم أسرة كأسرتك، فاشكري الله تعالى أن أكرمك.بأسرة كهذه، فترعرعت داخل وسط علمي وديني، ولم تنشئي في وسط يفسد أخلاقك ويصرفك عن العلم وطلبه. فطوبى لمن كان له أبوان صالحان، وطوبى لمن له أسرة طيبة الأعراق.
ثانيا: أكرمك الله تعالى بحفظ كتابه، وكثير هم من يحلمون بحفظه، أو حتى قراءته لعجمة لسانهم أو ضعف حفظهم، أو أمية تعتريهم، فتعاهديه بالمداومة على مراجعة حفظك له، لتثبتي عليه فلا ينفلت منك، ولا تقصُري همتك على مجرد الحفظ، بل جاهدي على أن ترتقي بحفظك لمستوى تدبر آيات القرآن وأخلصي النية واصدقي مع الله في ذلك لييسره لك، وابدئي من هذه المرحلة أن تعودي نفسك على مجالس القرآن وأهله، وان تتخلقي بأخلاق القرآن وأهله، بأن تترجمي حفظك له في صدرك إلى حفظه بقولك وسلوكك، وكوني ممن صدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم، فتكوني من السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله ومنهم: «وشاب نشأ في طاعة الله»، فتعودي على أن تتحركي بالقرآن وأنت في الطريق إلى الدراسة وأنت في المواصلات، وأنت بالبيت، ومع رفيقاتك وأخواتك وأهلك، في كل مكان ترتادينه، وفي كل خطوة تتحركين به، لا يفتر لسانك ولا يمل، شأنك شأن الزهرة الفواح، حيثما حلت فاح شذا عطرها، أو كالمصباح المنير الذي يضيء للمارين،تعلمي أن تكوني قدوة بحجابك وبأخلاقك وبكلمتك وبمظهرك وبمعاملتك، قدوة في حبك لأهلك، وصنيع المعروف معهم، والتودد إليهم، والتلطف معهم تذكري كم تعبت والدتك في تربيتك، وكم ضحت لأجلك وكم سهرت على راحتك، وكم بذلت وقدمت لك ولأخواتك، وكم تحملت وصبرت على تربيتكم جميعا، وكذلك شأن والدك كم عمل وكم جاهد ليوفر لكم الحياة الطيبة الكريمة، وقولي مع نفسك ماذا قدمت أنا لهم مقابل ما قدموه لي، وماذا وفرت لهم مقابل ما وفروه لي، هم لم يطالبوك بشيء، ولم يشترطوا عليك شروطا لأجل أن يحبوك، فأحبيهم لأنهم يستحقون ذلك الحب، وتأكدي أنك لن تجدي بالدنيا كلها أحن قلب عليك من أهلك، ولا من يسعى لراحتك وسعادتك كأهلك حتى لو قسوا عليك، أو اشتدوا عليك، أو ما تفهموا سنك ولاما بداخلك، ولا مشاعرك الصغيرة، أعذريهم وتقبليهم بمحاسنهم وأخطائهم، لأنك أنت كذلك في طباعك أشياء جميلة وأشياء سيئة، فكوني راضية عن أهلك لأنهم أهلك كما هم اقبليهم ويفخر، كما قبلوك ويتمنون أن يروك ناجحة في حياتك، فاثبتي لهم أنك تستحقين هذا الحب، وجازيهم على إحسانهم إليك ببرهما وطاعتهما في غير معصية وإرضائهما، فبطاعتهما تطيعين الله، وبسخطهما تسخطين الله، والله سبحانه يأمرك بذلك فيقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: من الآية 23]، وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: من الآية 24]، إنها آيات وأحاديث كثيرة تحض على بر الوالدين، وأكيد أنك تحفظين منها الكثير، ولهذا مهما صدر عنهما الزمي طاعتهما بالمعروف، واشكري الله تعالى أنهما ما زالا على قيد الحياة لتبادري وتصححي أخطاء صدرت منك في حقهما، أو تقصيرا في رعايتهما وطاعتهما، فهناك من يتمنى لو يعود والده أو والدته للحياة ليقبل قدمهما ويوقف حياته كلها لإكرامهما والإحسان إليهما.
فبادري قبل فوات الأوان، لتغيري من نظرتك ومن إحساسك ومن سلوكك اتجاه أسرتك.
ثالثا: أنت في مرحلة تكون فيها المشاعر غير مستقرة، في تقلبات وتغيرات مختلفة، فلا تحكمي حاليا على نظرتك بالصحة والاستقامة والثبات، وجاهدي نفسك على أن لا تهتمي بما تشعري به الآن، فسينتهي بعد مدة قصيرة إن شاء الله مهما كانت هذه المشاعر سلبية لا ترضيك، وركزي اهتمامك في ما هو أهم، وهو كيف تنجحين في دراستك، وكيف تنجحين في جعل كل من حولك يحبونك، وهذا يحتاج منك أولا أن تتقربي لله بالطاعات والنوافل، والصدقة سواء كانت مادية أو معنوية، فالكلمة الطيبة والابتسامة صدقة، فتصدقي على أهلك بالكلمة الحلوة الجميلة، وتصدقي عليهم بالابتسامة المشرقة، وتصدقي عليهم بحسن المعاملة، حتى لو استمر شعورك اتجاههم بالضيق والرفض..
تغلبي على كل ذلك، وحاولي أن تنجحي وتنتصري على إحساسك، ولا تقبلي بالفشل.
تأكدي أنك إذا نجحت في هذا الامتحان ستنجحين في كل امتحان سيقابلك في المستقبل سواء في دراستك أو عملك أو حياتك الخاصة أو العامة
رابعا: لا أحب أن أرى شابة كالزهرة المتفتحة يتسرب إلى قلبها اليأس والقنوط، فأنت في عمر جميل، عمر مفعم بالأمل، والمستقبل أمامك لتصححي أخطاء كثيرة ولتتغيري، ولتقدمي أشياء جميلة تسعدك وتسعد من حولك.
فإياك وأن تتمني الموت، مهما اشتد بك البلاء، لأنه لا يتمنى مؤمن ولا مؤمنة الموت، لأن المؤمن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس هذا إلا للمؤمن كما أخبر الصادق المصدوق، ومن علامات الإيمان الحقيقي وتمامه واكتماله الإيمان بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره.
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تمني الموت: «لا يتمنينَّ أحدُكم الموتَ لضرٍّ نزل به، فإن كان لابد فاعلًا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي» فلا تتذمري من حياتك ولا من أهلك ولا من ظروفك ولا من أحاسيسك، وقولي دائما أنا على خير، وأنا في نعمة من الله بل في نعم لا تحصى، وعلي أن أحمد الله تعالى عليها آناء الليل وأطراف النهار.
تأكدي أنك ستنجحين وستتفوقين، وسأسمع منك إن شاء الله أخبارا سارة عن قريب، بأن حياتك تغيرت للأفضل، وأن كل هذه المشاعر تبخرت وتلاشت، وستعرفي حينها كم يحبك أسرتك، وكم أنت تحبينهم، فقط كنت تحتاجين لوقت لتفهمي كل هذا، ولتقيمي علاقتك بهم بشكلها الصحيح.
ما زالت تجاربك قليلة وخبرتك بالحياة فتية، فلا تتعجلي وأمهلي نفسك ومشاعرك لتنمو ولتكبر ولتنضج، وحينها ستشرق الحياة أمامك، كما تشرق الشمس في الصباح لتنير الدنيا كلها، وحينها ستتضح لك الرؤية وسترين صورة أهلك بلونها الجميل الناصع.
جعلك الله ممن شب ونشأ في طاعة الله ورضاه ومحبته.
الكاتب: صفية الودغيري.
المصدر: موقع المسلم.